الكابوس
كن النور لعذاباتي أيها الليل..
...وأقبل من دفء جراحي أو من صقيع غربتي.
....لملم كل ما في الكون من فرح وتعال ، فأنا في شوق إ ليه منذ ألف عام !
والصباح ؟..الصباح بعيد جداً عن أحلامنا، ربما سنحتاج لألف عام ٍ أخرى لنحلم به .. فحتى جدي لم يحلم به .. بل لقد حاول وجاهد ففشل ..جدي ذلك البطل الأسطوري لم يستطع،قلت يا جدي: كيف يكون الصباح؟
ابتسم وشد علي غطائي ، وأطفأ المذياع الثرثار .. ورحل !
أقسمت أمي بدماء أبي وجراحه ، أنها لم تفعل ذلك ، ولم تغادر غرفتها في تلك الليلة الباردة !.. فهل عاد جدي حقيقة ً بعد عشرين عاماً من موته ليقي جسدي النحيل برد الليل ؟!
إذن عادت معه حكايات البطولة القديمة ، وروايات الجن القابعين في الجبل البعيد ، حيث حصرهم جدي في مغارة خلف صخرة سوداء كبيرة .
ـ أيا جدي أخافني وجهك الجميل ، وكتفاك الجباران ، فلم رحلت ؟ وخليتني شلواً على غضن يابس ، في صحراء كلها ذئاب ، أهتز مع أصغر النسمات . الذئاب في أشداقها نار البراكين الملتهبة ؟!
لم تفارق وجه جدي الابتسامة الهادئة الغامضة ، اضطجع قربي ، وحملني معه في ذكريات وأحلام الماضي .جدي شاب صغير ، يقد الصخر بمعوله الفولاذي ، وينقل أضخم الجذوع من الغابات البعيدة على كتفيه ، لم يحتج لدابة ٍ يوماً ، بل كان يكرهها ويحتقرها ، ذلك لأن ّ أولى بطولاته كانت تلك الصفعة الوحيدة لثور ٍ هائج هاجمه، سمّي على إثرها البطل .نظر جدي يومها في كف يده اليمنى مدهوشاً ، ونظرة أخرى إلى الثور النازف المرتمي على الأرض .. أجرأ الناس صاح حياك يا بطل ) .
ـ من أي عشق جلبت جبروتك أيها الفتى ؟ وهل خط شارباك لتعرف معنى العشق الرجولة ؟!وكيف عرفت معنى العشق والأنوثة ولم تنسَ بعد عطش فطامك ؟؟.
أشعر بالبرد يا جدي ، دفئني بنيرانك ، وأشعل منها قبساً يذيب الجليد عن جسدي. سخرت من نفسي ، وكيف الميت يدفئ حياً كيف ؟
قدّ الصخرة الأولى وسواها ، وقد الثانية ، ومضى في عمله .. لم يفلح أحد في حملها ، فحملها هو ، وهكذا أصبح جدي بناءً ، يقطع وينقل ويبني ، ويحضر الجذوع الضخمة من أدغالٍ لم يصلها سواه ، يصنع منها السقوف ، ويكمل البناء إلى آخره .قال لي صديقه العجوز المقعد :
ـ يا عمي جدك "كان مآخي الجن" ، و ذلك بعد أن استطاع أن يقتل دباً بضربة بلطة واحدة ، ثم حمله على ظهره من الأدغال البعيدة إلى القرية وهو جريح من ضربةٍ بمخلبه في ظهره ؟جدك أخذ مخلب كفه الأيمن ، وحمله معه . يقال : إن من يبيسان دباً ويحمل مخلبه الأيمن ، يستطيع أن يكشف ستر الجن ويراهم عياناً ، وتسير خلفه إناثهم، أما ذكورهم فيراهم فقط ، وقد يحاربونه ...
ــ وهل استطاع أن يفعل ذلك ؟ هل رأى جدي الجن عيانا ؟؟
ــ ويقال : إنه قاتلهم في رؤوس الجبال ....
شدتني غرابة الأسطورة..
ـ وماذا أيضا ؟ هل حكى لك شيئاً بلسانه ؟
ــ حكى لي الكثير . أنا مستودع أسراره . سأقول لك شيئاً ، فلا تبح به أيها الشاب :
جدك عشق جنية !! وقاتل من أجلها أبطال قبيلتها ، وفي النهاية تعادل مع أقواهم ، فخيّرت بينهما ، وطال الجدال ، فأشار عليها شيخٌ منهم أن تَرضى بجدي لفترة حقناً للدماء ، فقبلت به لشهر واحد تكون فيه طوع بنانه وتحقق أمنياته .
ـ وماذا كانت بيسانية الأولى ؟
ـ للأسف تمنى مالا يستطيع الجن فعله . أن تغير له قدره فلا يُبيسان كما قُتِل أبوه وجده ... طبعا رفضت لكنها أخذت تقرأ وتعزّم وتشعل أبخرتها السحرية ، فكشفت له طريقاً طويلاً . مكتوبٌ في الطريق أشياء غامضة منها : إنهم آتون بعد جيلين، وإنهم سيقاسمونكم الحَبّ والعنب والنبيذ .. الدار والأهل والحواكير ، رأى بعدها أشلاء أحفاده الشهداء الأبطال منبيسانعلى الطرقات, ثم رأى ينابيع و أزهار تتفتق وتظهر فوق القبور ، ثم رأى سواداً وعتماً مطبقاً ،لكنه لم يستطع أن يصل إلى النور المطل من أعماق الظلمة ، فقد أعادته محظيته لأنّ البشر لا يستطيعون تحمل أكثر....
سكت العجوز ثم بصق دمعة مرة فيها حزن ألف عام .
ـ وماذا بعد .. أكمل يا جدي .. ما تفسير كل هذا . من هم الآتون في جيلي أنا ؟ ومتى سيأتي ذلك النور ؟؟!
ـ لم يرَ جدك أكثر من أشلاء أحفاده الأبطال . إنه نسي أن يرى كيف سيبيسان .
عدت إلى غرفتي حزيناً يائساً . البرد قارس. رفعت صوت مذياعي، ونمت عارياً ، ألن يشفق علي جدي َ ، فيأتي ليشد علي غطائي ؟
ــ تعال يا جدي ، وقل لي لماذا قتلوك على بوابة القرية ، وعدنا إلى الرحيل ، ولماذا سيبقى القتل مصير أحفادك كما هو مصير أجدادك ؟؟ وإلى متى سيبقى القديسون والأنبياء يبيسانون ؟ ولماذا لم تعرف متى سيأتي النور ؟؟!!!
أتى جدي ، مسح دموعي ، وشدّ غطائي ونام قربي ، نام أبي ، نام جده ، ونام جد جدي ، نام أحفادي الشّهداء الذين لم يأتوا بعد .
نامت سلالة الشهداء كلها... نامت كل الخليقة فوق فراشي تحلم بالنور الذي رآه جدي ، ويبدو أن النوم سيطول ... ويطول ... ويطول ....
الأحد مايو 26, 2019 12:59 am من طرف نبيل عودة
» فلسفة مبسطة: الماركسية بين الجدلية والمركزية
الجمعة يوليو 13, 2018 9:52 am من طرف نبيل عودة
» الرأسمالية في التطبيق!!
الأربعاء مارس 07, 2018 10:42 pm من طرف نبيل عودة
» مطلوب مرشحين لرئاسة بلدية الناصرة
الثلاثاء يناير 30, 2018 6:59 pm من طرف نبيل عودة
» مؤسسة الفكر للثقافة والاعلام تصدر كتابا الكترونيا لنبيل عودة
السبت ديسمبر 23, 2017 7:25 am من طرف نبيل عودة
» خواطر ثقافية حول ديوان الشاعرة نعيمة عماشة: "يمام ورصاص"
الأحد سبتمبر 24, 2017 11:00 am من طرف نبيل عودة
» الواقع الثقافي العربي ومفهوم الحداثة
الإثنين سبتمبر 11, 2017 10:59 am من طرف نبيل عودة
» ديماموغيا
السبت سبتمبر 02, 2017 6:18 am من طرف نبيل عودة
» يستحق الاعدام
الثلاثاء أغسطس 22, 2017 11:06 pm من طرف نبيل عودة