صوت وسنديان
وأنا لا أستطيع نسيانه.. ستمسح العقارب وجه الساعة المرقم وتتراقص في تلك المساحة لسنوات ربما.. دون أن أشعر بظل الزمن الملقى على وجهي. وهل أستطيع نسيانه حقا ً؟
ربما بدأت أنسى بعض ملامحه, وبالتحديد بعض التفاصيل الدقيقة لا المميزة.. فتلك الأخيرة مرسومة, مكللة بما تعنيه لي. ابتداءً من تلك الشامة الغافية على جبهته, والتي كثيرا ً ما أخبرتني حين كنت أختلس النظر إليه وهو نائم عن ذكريات وأحداث عاشتها برفقته. وانتهاءً بظهره المحدب قليلا ً, والذي قاسى مع عناد جدي كثيرا ً, حيث حمل جدران منزله حجرا ً حجرا ً.. وكما يحلو له نظمها, ليكون لمنزله نكهة ٌ خاصة, ولعمله وقع خاص لديه.
أتجول اليوم حول هذه الجدران العتيقة, وأنحرف قليلا ً حيث التنور الصغير يحتفظ ببصمات أصابعه كذلك.. وهناك تسرقني الذاكرة إلى زمن كنت وأختي طفلتين نتسابق نحو التنور, لالتقاف أرغفة الخبز الساخنة من يد جدتي, فيما كان جدي يسرع لحملنا بين ذراعيه تحت إصرارنا وإلحاحنا, ليجلسنا على حافة التنور, لنرقب قطع العجين في تحولها إلى أرغفة ناضجة.
مازلت اليوم أبحث عن تلك الحميمية الضائعة, علني أجدها بين هذي الصخور... مازلت أفتقدها حتى وأنا أتناول اليوم خبز التنور الذي تعده جدتي, وهو الآخر لابد أنه قد اشتاق إلى تلك اللحظات التي جمعتنا..
_ إن فقدت ذراعا ً من جسدي... لا بأس!!
لكن ماذا إن فقدت ذراعا ً ليست من جسدي؟؟!
كنت طفلة.. وكان شيئا ً ملفتا ً ما كنت أسمعه ينطق به. ربما.. ما كنت أستطيع أن أفهمه حينها, لكنني كنت أحس أن لكلمات كهذه وقعها في داخلي.. كوقع صورته التي لم ترحل من ذاكرتي أبدا ً وهو عائد من طرابلس.
كان عائدا ً ليبيسان بيديه زمن الظل الضاغط على أنفاسه. عاد ليلوي ذراع شقائه, ويكسر حاجزا ً من الفقر كان سبب انكساراته.. لكنه لم يستطع أن يكسره كليا ً كما تمنى... سابته تلك الغربة القريبة بعضا ً من قوته, فالعمل في البناء يتطلب جهدا ً بدنيا ً لم يتحمله مسن كجدي.. وسلبته كذلك شيئا ً فشيئا ً... صوته. ومن كان يدري أنه كان سيفقد صوته كذراع أساسية له؟ هو الذي ما عرف كيف تخط الكلمات والمشاعر على الورق.... ولم يعرف قلما ً أفصح من لسانه... أتراه فيما بعد ودون أن نلحظ, فقد ذراعا ً أخرى من غير جسده حين أهملناه دون قصد؟!
كنت أقرأ في عينيه حزنا ً وهو يحاول النطق لإيصال كلماته المليئة إلا من الصوت... وكان يغضب بعض الشيء حين نخطئ في ترجمة قصده, وكنت كثيرا ً ما أحس بالذنب حين يغضب.. ولست أدري إن كان لنا يد في فقده لصوته..
وأمام زرقة عينيه الحزينتين كنا نكبر شيئا ً فشيئا ً.. ولم يمل أبدا ً وهو يرقبنا وترتسم الضحكة على شفتيه, ويرفع يديه ابتهالا ً لربه...
أمي... تلك النرجسة الحزينة دائما ً.. كانت تحكي لنا كيف قضى جدي أغلب فترات شبابه في مستشفى (القدموس) القريب, حيث يعالج مرضى السل الرئوي.. وكانت تبكي كثيرا ً حين تتذكر طفولتها ومعاناة جدتي لتربي أطفالها.. تحت سقف من البؤس... وبلا سند..
كانت الطفولة إلى جانب إنسان كجدي شيء رائع, فهو يتفهم ما نريد, ويساعدنا لنحقق أفعالا ً شقية كنا نقوم بها.. فقد كنا نتصنع النوم في غرفة جدي بالقرب من مدفأة الحطب.. تلك الغرفة التي صنع لها سقفا ً من الخشب, ومتنه فيما بعد بصبة من الاسمنت.. وكانت تلك حيلة صغيرة ليتركنا أهلي في بيت جدي لنقضي الليل باشتمام رائحة احتراق الحطب, والتهام البطاطا المشوية التي كان جدي يعدها في قلب تلك المدفأة...
لم تعد تلك المدفأة القابعة في وسط الغرفة تعني لي الكثير الآن.. لكنني وكلما نظرت حولها, أتخيله بجلسته المعتادة وأتذكر.. حين كان يلتقط ورقة من أوراق الروزناما ويلحظ بعض أبيات الشعر المكتوبة عليها, فيناولها لأمي لتقرأها له.. ويسرح هو في عالم آخر.. أما أمي فراحت تجمع له أجمل القصائد الجاهلية كما يحب.. وتتلوها على مسامعه كل صباح, في زيارتها المعتادة إلى منزل أهلها, والتي تحولت فيما بعد.. إلى زيارة لمثواه..
رحل جدي.. دون أن يبوح لنا حتى بما يحس, ودون أن نسمع منه كلمة عن تجربة إنسان.. فقد ذراعه بفقدان صوته, ومازلنا نحاول أن لا نفقده ذراعا ً أخرى من غير جسده.. إن كنا نستطيع أن نحفظ الصدى.
الأحد مايو 26, 2019 12:59 am من طرف نبيل عودة
» فلسفة مبسطة: الماركسية بين الجدلية والمركزية
الجمعة يوليو 13, 2018 9:52 am من طرف نبيل عودة
» الرأسمالية في التطبيق!!
الأربعاء مارس 07, 2018 10:42 pm من طرف نبيل عودة
» مطلوب مرشحين لرئاسة بلدية الناصرة
الثلاثاء يناير 30, 2018 6:59 pm من طرف نبيل عودة
» مؤسسة الفكر للثقافة والاعلام تصدر كتابا الكترونيا لنبيل عودة
السبت ديسمبر 23, 2017 7:25 am من طرف نبيل عودة
» خواطر ثقافية حول ديوان الشاعرة نعيمة عماشة: "يمام ورصاص"
الأحد سبتمبر 24, 2017 11:00 am من طرف نبيل عودة
» الواقع الثقافي العربي ومفهوم الحداثة
الإثنين سبتمبر 11, 2017 10:59 am من طرف نبيل عودة
» ديماموغيا
السبت سبتمبر 02, 2017 6:18 am من طرف نبيل عودة
» يستحق الاعدام
الثلاثاء أغسطس 22, 2017 11:06 pm من طرف نبيل عودة