دوالي دمشقية
قبل أن تدرك أصابعي أنها إن عانقت قلما كتبت .. قبل أن تعي عيناي أن مهارة فك شيفرات الحروف تؤدي إلى مهنة القراءة ..قبل أن يطول شعري وتضفر لي جدتي جدائل الكستناء بشريطة "ساتان" زهرية ..قبل أن أغفو في أرجوحة معلقة في حنايا دالية ..و قبل أن تصنع لي عمتي دمية من قماش نسيت أن تطرز لها فما أحمر ... قبل أن أغرم بحلويات جدتي المصفوفة في الكتبية ..كانت دمائي شامية وهبتني ميزة تلمس الشروق برائحة القهوة صباح العيد و الاحتفاظ بسر الغروب على طوق ياسمين ضممته بيدي زينة عرس ما ..متعة الترحال اليومي على متن نسيم رقيق شغوف بعبور المندلون و الطاقات المفتوحة في " مربعات" بيتنا ..أحترف انتظار ما لا ينتظر لأنه ببساطة شديدة غير محدد الكينونة .. صادقت "الشاب الظريف" و مدارج الشمشير و خيمة الياسمين و العراتلي دوبيسان البحرة و كل العطور التي اعتصرتها يدا جدتي من مآقي الزهر ..و التوت الشامي الذي خبأته في زجاجات شفافة و النارنج المستلقي في آنيتها المعتمرة بقماش طرزت حوافه بالوردي يدها الرشيقة أثناء انتظارها عودة جدي من سهرته اليومية..
في انتظار ما لا أعرف كان النهار مساحة مملوءة بالتحمل و استيلاد الفرحة وإجابة عن السؤال الوحيد للامتحان اليومي : كيف أعبر نحو بوابة الليل الدمشقي ؟
وثقت حد اليقين أنني سأجد إشارة ما ذات صباح في منقار عصفوري " أبو الحناء" .. ربما وردة .. ربما محرمة ملونة .. ربما قصاصة ..
و العمر فصول .. تمضي .. بعض منها يمكث أطول .. بعض منها لا يبارحني البتة ..أوان الفصل الأول لونتُ الانتظار أيقونة معلقة على جدر القلب ..حدائق يختال وردها الجوري بجموح ماله حد ..عواصف تثور و تهدأ كما ثارت و أنا في ركني وراء زجاج نافذة أحصيها باهتمام مؤرخ أوقن أنه يشهد تاريخا لا يشبهه شيء و سيسأل عنه في زمن آتٍ..
منتصف الفصل الثاني أدركتني شهوة الكتابة ، ليس أن خطوات القلم الجائل مدارات الحرف جميلة إذ راقص سطرا برهة ..غادره ليراقص سطرا آخر .. يقلب صفحة تتلوها صفحة ..يحكي معها شغِفا بتطريز البياض ، يدعو الأصابع أن تتلمس نتوءات خطواته في الوجه الأخر للورقة كقديس كفيف يقرأ برديته بخشوع ..
كل منها تحكي قصة ..مخزون من صندوقي السري ،من " بقجة " جدتي ، من أغنيات عمتي ، من تشكيلات راقصة دارت يوما في بيتنا في قلب دمشق .. من صوت الأذان في الصبح البارد ..من قرآن يتلى في غرفة جدتي ..من شاي كالمرجان تحت الدالية بقطوفها الدانية..من "هنا دمشق" تعلن في إذاعتنا أن الصبح أتى في حقيبة فيروز .. من دقة أم عبدو بائعة الحليب على سقاطة بابنا .. من قهوة العيد تفوح رائحتها في جنينة بيت الجيران ...من آنية مربى المشمش المعقود و غطاء ناصع يشاكس شمس الصيف يغطيها و يغري أصابعنا ترفعه نتفة و تغوص فيها .. من رائحة الحيطان المغسولة بماء بردى العابر ريا في سواقي البيت يحمل معه مكتوبا .. وردة و حكايات.. من صوت المسحر " اصح يا نايم وحد الدايم " في ليالي رمضان السهرانة .. من زغرودة عرس و بياض الطهر مسكوب في حناياها ، من حمائم دمشق تفرش و تنام آمنة في " مشرقة" البيت.. من نقرات على الحائط تعلمنا أن الجارة عند الباب أتت لتناول شاي العصرية وتضيفنا على خبريات الجيران و عودها المشاغب ..
أجدني في هذا العمر على مفترق طرق كلها تؤدي لدمشق .. مخطئ من قال كل الدروب إلى روما تؤدي .. و ماذا تكون روما بحضور سيدة المدائن ، سادنة الجمال و صانعة كل الإنساني المسكوب في قلب البشرية؟
و دمشق ، بالوراثة ، علمت أناملي كيف تصوغ قلبي مزهرا كغوطتها على قماش ثمين كما أجدادي صانعي البروكار، علمتني كيف أكتبها .. بين كل سطرين أجدني كتبت دال، ميم، شين ،قاف.. أضمها معا، أرتب لها جدائلها، أحفظها في حرز أخضر في جناح حمامة، " والهوى يسافر بمكتوب في جناح طير و بقصيبة تحنت بليلة مهر "..
من قال أن الضفيرة لم تكن شامية ؟ من قال أن الهوى ليس سوى دمشق؟
ريم بدر الدين
الرياض /المملكة العربية السعودية
26/7/2011
*الشاب الظريف ، الشمشير ، عراتلي : زهور دمشقية
*الكتبية : خزانة في الحائط لحفظ الاشياء بواجهة زجاجية أحيانا لعرض المقتنيات الثمينة
* المندلون : نافذة صغيرة فوق الباب
* المشرقة : غرفة صيفية تقام على سطح البيت الدمشقي
* بقجة : صرة قماشية مطرزة لحفظ الملابس و المشغولات اليدوية
*سقاطة : قطعة حديديه على باب البيت الدمشقي تعمل مكان الجرس
* بروكار :نسيج دمشقي نفيس
الأحد مايو 26, 2019 12:59 am من طرف نبيل عودة
» فلسفة مبسطة: الماركسية بين الجدلية والمركزية
الجمعة يوليو 13, 2018 9:52 am من طرف نبيل عودة
» الرأسمالية في التطبيق!!
الأربعاء مارس 07, 2018 10:42 pm من طرف نبيل عودة
» مطلوب مرشحين لرئاسة بلدية الناصرة
الثلاثاء يناير 30, 2018 6:59 pm من طرف نبيل عودة
» مؤسسة الفكر للثقافة والاعلام تصدر كتابا الكترونيا لنبيل عودة
السبت ديسمبر 23, 2017 7:25 am من طرف نبيل عودة
» خواطر ثقافية حول ديوان الشاعرة نعيمة عماشة: "يمام ورصاص"
الأحد سبتمبر 24, 2017 11:00 am من طرف نبيل عودة
» الواقع الثقافي العربي ومفهوم الحداثة
الإثنين سبتمبر 11, 2017 10:59 am من طرف نبيل عودة
» ديماموغيا
السبت سبتمبر 02, 2017 6:18 am من طرف نبيل عودة
» يستحق الاعدام
الثلاثاء أغسطس 22, 2017 11:06 pm من طرف نبيل عودة